غزوة وسورة فقد قال علي بن الحسين - رضي الله عنهما - " كنا نُعلَّم مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم السورة من القرآن ". [ابن كثير: (السيرة):2 352].
هذه مآثر آبائكم:
- عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: "كان أبي يعلمنا المغازي، ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها"[الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي: 2 195]
الجنة في الآخرة، والتمكين في الدنيا.
قال الإمام الزهري:
" في علم المغازي علم الآخرة والدنيا" "[الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي: 2 195]
يا طالب الثقافة، ويا طالب الفِكر، ويا طالب الأدب، ويا طالب العلم، ويا طالب التربية...
هلموا، هلموا جميعًا إلى مكان مليح، فيه ما تشتهون من كل نورٍ في دروب الفنون، في الثقافة والفكر والمعرفة والأدب، في التربية والسياسة والاقتصاد والتنمية!
هذا المكان بين دفتي كتاب، يقص من أنباء خير البرية، إنها السيرة النبوية، خير السير، وأعظم العبر، وأحسن القصص.
وقبل أن تطالع سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ عليك أولًا أن تعرف قَدر السيرة، وفوائدها الكثيرة، وهذه بعضها:
أولًا: - فهم القرآن:
فمن فوائد دراسة السيرة النبوية؛ أنها تساعدك على فهم كتاب الله تعالى، فقد نزل القرآنُ مُنجّمًا، تعقيبًا على الأحداث، أو تبيينًا لإشكال، أو ردًا على استفسار، أو تحليلًا لموقف من مواقف السيرة.
كما حدث في مواقع بدر وأُحد والأحزاب وتبوك، وكما حدث في صلح الحديبية، وحادث الإفك وغيرها من الحوادث والمشاهد. فقراءتك لهذه المواقف من السيرة تساعدك في فهم ملابسات الحدث، وخلفيات الموقف، وطبيعته من الناحية المكانية والزمانية.
ثانيًا: فهم السُّنّة:
فأحيانًا تَرِدُ مواقفُ السيرةِ في كُتب الحديث بشكل مُقتضب جدًا، وأحيانًا يذكر أصحابُ المتون موقفًا أو موقفين في غزوة كاملة، الأمر الذي يدفع القارىء إلى مطالعة السيرة النبوية للوقوف على ملابسات الحدث وخلفياته وزمنه ومكانه، مما يعينه على فهم الحديث، واستيعاب بعض الأحاديث التي قد لا يرضى عنها العقل. نعوذ بالله من الزيغ والارتياب.
ثالثًا: فهم العقيدة الإسلامية:
ومن فوائد السيرة؛ أنها تساعد على فهم العقيدة الإسلامية؛ بطريقة عملية من خلال السلوك العملي للنبي – صلى الله عليه وسلم – عبر مسيرته الحافلة بمواقف الإيمان والثبات في مواجهة المحن والإيذاء والمساومات.
وفي المرحلة المكية تتجلى المعاني الكبرى لعقيدة التوحيد، وتظهر طريقة القرآن المكي في ملاحقة الشبهات العَقدية التي يطرحها المشركون خلال هذه المرحلة، وفي ضوء هذا التنزيل نرى الحكمة النبوية كيف تدمغ هذه الشبهات.
وتفنِّد هذه الادّعاءات التي أثارها الوثنيون حول توحيد الألوهية، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، والوحي والنبوة، وغيرها من المحاور العقدية العظمى، والتي تناولتها السيرة النبوية بشكل جامع مانع.
[وأقول دومًا: إن السيرة النبوية هي أعظم المصادر في دراسة العقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم، فمَن عزم على دراسة علم العقائد فعليه بالقرآن ثم السيرة ثم أبواب العقائد في كُتب السُنة ثم أمهات العقائد للعلماء الأعلام، ثم يقرأ بعد ذلك ما شاء! ]
رابعًا: التأسي بالنبي – صلى الله عليه وسلم -:
ومن فوائد دراسة السيرة أيضًا، أنها تساعدك على الاقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، إذ هي تبيْن لك أحواله وأخلاقه مع أهله ومع صحبه ومع عدوه، وتشرح لك سلوكه في سلمه وحربه، في حكمه وقضائه، في ضعفه وقوته، وفي مرضه وصحته....
وقد قال الله - تعالى -: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا " [الأحزاب:21]، ولن يتحقق التأسي إلا بمعرفة سيرة الـمُتأسَى به..
خامسًا:- مَحبة النبي – صلى الله عليه وسلم:
ومن فوائدها كذلك أنها تُزيد حبك للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وحبُه من الدين، وحبه من الإيمان، وقد قال الله – جلَّ وعلا -: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " [التوبة:24].
وقد قال خير البرية – صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [البخاري: 15، عن أنس].
فإذا أردتَ أن تكون من محبيه فعليك بسيرته، وإذا أردتَ أن تعرف قَدره فعليك بسيرته، فهي تلهب مشاعرك نحوه، وتوثِّق قلبك به، فعليك بإدمان النظر في السيرة حتى يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – أحب إليك من نفسك ووالدك وولدك والناس أجمعين، ولا تظنن أن هذا الحب يُدرك بالقراءة فقط، فالقراءة وعاء أجوف ما لم تملأه بالعمل.
سادسًا: محبة الصحابة وآل البيت – رضي الله عنهم –:
فمن السيرة تعرف قدْرَ أبي بكر، وبَلاءَ عمر، وبذل عثمان، وشجاعة علي، وحِلم معاوية، وصبر خباب، وثبات بلال، واجتماعية الطفيل، واقتصادية ثمامة، وكرم أبي أيوب، وفقه معاذ، وهمة ابن الجموح، وفدائية ابن جحش، وقرآنية ابن مسعود، وصدق أبي ذر، وأمانة أبي عبيدة، وعبقرية الحباب، وحفظ أبي هريرة، ودهاء عمرو، وخطابة سُهيل، وفروسية الزبير، وصمود سمّاك، وأناقة دحية، ولباقة ابن حذافة، وذكاء سلمان، وغيرهم، من الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم جميعًاز
ولعن الله مَن أساء إليهم -، فضلًا عن فَضلِ أمهات المؤمنين، فمن السيرة تعرف سَبْقَ خديجة، وعِلْمَ عائشة، وفضل سَوْدة، وبركة جويرية، وغيرهن من أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن جميعًا -، وترى في السيرة جهادَ الصحابيات؛ وقد ضربن المثل في التضحية والبذل من أجل دين الله، فستعرف فيها: فضل سمية أيام مكة، وفضل أسماء يوم الهجرة، وفضل نسيبة بنت كعب يوم أُحد، وفضل غيرهن من الصحابيات الجليلات.
سابعًا: تحصيل المنهج النبوي في التربية:
فدراسة السيرة؛ سياحةٌ روحية، تسمو بها النفوس، وتخشع لها القلوب، وتدمع فيها العيون، وتزكو بها الهمم، وتُشحذ فيها الأرواح والأجسام والعقول والجوارح. كما أن السيرة تُبيْن لك كيف أعدَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – جيل النصر المنشود.
وكيف ساق عبَّاد الأوثان إلى الحياة من جديد، وجعل منهم أعلامًا في الجهاد والفتوح، والحضارة والعلوم، والسياسة والفنون. فالسيرة ترسم لك معالم المنهج التربوي في الإسلام.
وتشرح لك أهدف هذا المنهج ومقوماته ووسائله ونتائجه. وقد شهد أربابُ التربيةِ أن السيرةَ ذخيرةٌ في القيم التربوية والتي لم تجمعها سيرة إنسان مشى على وجه الأرض.
ثامنًا:- ثقافة التكوين، إعداد الفرد المسلم، البيت المسلم، المجتمع المسلم:
السيرة منهج حياة، تصوِّر لك النظام الشامل للإسلام، فمنها يتعرف المسلم على منهج التكوين الإسلامي، فيعرف كيف أعدَّ النبيُ – صلى الله عليه وسلم – الفردَ المسلم، والبيتَ المسلم، والمجتمعَ المسلم، وكيف كانت بدايةُ الدعوةِ على حُر وعبد (أبي بكر وبلال)، ثم الأُسرة الإيمانية (في دار الأرقم).
والبيت المسلم (كبيت أبي بكر)، ثم المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة المنورة، ثم الدولة الإسلامية التي هي نتيجة طبيعية للمجتمع المسلم.
وكيف أقام هذه الدولة، وبنى مسجدها، ووحَّد صفها، وحرَّر سوقها، وجيَّش جيشها، وأمَّن حدودها، وكتبَ دستورها، وعقد المواثيق مع جيرانها، وحارب أعدائها، ثم صالح وعقد هدنة، ثم راسل ملوك الدنيا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ثم مات وخيله تتجهز لغزو الرومان.
تاسعًا:- الثقافة العسكرية، ومعرفة عوامل النصر وأسباب الهزيمة:
فقد اشتملت السيرة على العديد من التجارب الحربية، والمفارقات العسكرية، والمشاهد القتالية، وأبانت لنا كيف انتصر المسلمون في بدر، وكيف انهزموا في أُحد، وكيف انكشف الحصار في الخندق، وأبانت جُبن اليهود، وخيانة اليهود، وعداوة اليهود، وأظهرت عناد الوثنيين، وتكبر الفرس، وإسراف الروم، وحمق كسرى، ودهاء هرقل، وعدل النجاشي، وكذب مسيلمة.
وهكذا، يتثقف المسلم في المجال الحربي، متعلمًا من هذه المشاهد أسباب الهزيمة، وعوامل النصر، ووسائل التحفيز، وطرق الردع، وخطط الحرب، وآلات الضرب، ومشاهد السرية والكتمان، ودراسة مشاهد الحصار، والحرب الاستباقية، والحرب الدفاعية، والحرب المعنوية، والسَرايا الاستخبراتية، وغيرها من الدروب الحربية.
عاشرًا: مدخل للعلوم الشرعية:
ومن فوائدها، أنها تهيئ طلاب العلم، وتجعل لهم سُلمًا للعلوم الشرعية الأخرى، بل أقول: إن السيرة هي أمّ العلوم الشرعية؛ ففيها الشرح التطبيقي للعقيدة الإسلامية، وفيها مظان الأحكام الشرعية، وأصول الأخلاق النبوية، وهي صدر التاريخ الإسلامي، ومقدمة مهمة لدراسة علم الحديث، ودرسٌ أساسي لدراسة السياسية الشرعية وأصول الحُكم في الإسلام.
ولا غنى لطلاب علوم الاقتصاد الإسلامي من دراسة السيرة لاسيما ما حدث من استقلال الدولة الإسلامية في المدينة عن الاقتصاد اليهودي.
حادي عشر: مطالعة الأدب الإسلامي:
من فوائدها، أنها تحظيك نَهَلَهْ في الأدبين الجاهلي والإسلامي، فالعهد النبوي؛ عصرٌ ذهبيٌ في تاريخ الأدب، تنهل منه من الأدب الجاهلي الذي دار على ألسنة الصحابة وغيرهم، وتنهل منه من أشعار حسّان بن ثابت، وكَعب بن مالك، وعبدَ الله بن رواحة، ولبيد بن ربيعة، وغيرهم. وقد قال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعرًا، وعُمر شاعرًا، وعليُّ أشعرَ الثلاثة..
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضاء، عندما أنكر عمر بن الخطاب على عبد الله بن رواحة قول الشعر في الحرم: " «خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهِىَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ» [الترمذي:3084، عن أنس]. ".
وعن عائشة – رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ». فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ «اهْجُهُمْ». فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ حَسَّانُ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْىَ الأَدِيمِ... قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لِحَسَّانَ «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ». وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى». [مسلم: 6550]
والقصائد التي نظمها حسان وغيرها من شعراء العهد النبوي، لن ترتشف من رحيقها إلا في أعجاز المواقف والمشاهد في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم -، مثل تلك الأشعار التي قِيلت في يوم بدر، أو يوم أحد، أو التي قيلت في مناسبات اجتماعية أو مدح أو ذم.
ثاني عشر: وجبة ثقافية شهية:
فمن فوائدها، أنها تمنحك وجبة ثقافية دسمة؛ في عادات العرب الأُسرية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعقدية والعسكرية والسياسية. ستعرف فيها كيف كان الزواج في الجاهلية وكيف كان في الإسلام، كيف كانت المرأة في الجاهلية وكيف كانت في الإسلام، وكذا الميراث والحج والقتال وغيرها من الموضوعات التي تُعلي من شأن الإسلام في نفسك.
كما أن هذه الوجبة هي مطيتك لفهم ثاقب لطبيعة المجتمع الإسلامي في المدينة بعد ذلك.
ثالث عشر: استلهام المستقبل:
فالسنن الربانية ثابتة لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحول، ولا تحابي أحدًا. والسيرة ما هي إلا تأريخٌ لأعظم فترة مرت بها البشرية، فيها أعظم تجربة لبناء أمة هي خير أمة أخرجت للناس، فيه تجربةٌ لبناء دولة.
هي أعظم دولة ظهرت على كوكب الأرض، فيها تجربةٌ لإنشاء حضارة؛ هي أعظم حضارة ظهرت على مر العصور. وهذه الحصيلة الضخمة من الخبرات والتجارب التي حوتها السيرة لا غنى لذي عقل عنها فضلًا عن الحكام والعلماء والفلاسفة والمصلحين، فالسيرة بمثابة الكشَّاف الذي تَفهم به الحاضر وتستلهم منه المستقبل.
انتهت المقالة، فماذا تنتظر؟
إلى السيرة، إلى السيرة!
ولا تُسوّف!
اقرأ الموقف، وتدبرْ دروسه، واعمل بتوصياته، واقصص على إخوانك ما قرأتَ؛ فذلك أدعى للاستفادة والرسوخ.
الكاتب: محمد مسعد ياقوت
المصدر: موقع منارات ويب